في إطار الحاجة الملحّة للتفاعل مع التحديات والمخاطر التي تتهدد المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، نظمت منظمة جسور إنترناشيونال للإعلام والتنمية، والمنتدى العربي الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان، فاعلية جانبية بقصر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بجنيف، تحت عنوان “الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان”، على ضوء انعقاد الدورة 51 للمجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تحدث في الندوة العديد من الخبراء الدوليين في مجال الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى منظمات دولية عدة ومهتمين بمجال الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان من المشاركين في أعمال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان.
وتواكب الندوة الاهتمام العالمي الخاص بمناقشة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على حقوق الإنسان، واستجابة للحاجة الملحّة للتفاعل مع كافة التحديات والمخاطر التي تتهدد المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، بسبب مقاربتها للذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية الحديثة، خاصة على صعيد الحقوق والحريات الأساسية التي ستواجه الكثير من التحديات لضمان تمتع الجميع بها دون تمييز، إضافة إلى انعقادها داخل أروقة الأمم المتحدة وبمواكبة أحد أبرز الأحداث الدولية في عالم حقوق الإنسان.
وتأتي الندوة استكمالاً لسياق الاهتمام الدولي المتزايد من قبل جميع الأطراف الفاعلة، لبحث هذه القضية للوصول إلى مقاربات كفيلة بتعزيز احترام حقوق الإنسان في ظل الذكاء الاصطناعي وعالم التقنيات الرقمية والحديثة، لا سيما أن تنظيمها يأتي من قبل عدد من المنظمات غير الحكومية والذي يعد حدثاً نوعياً ومتميزاً لتصدره الاهتمام والعناية الدولية بهذه القضية، على صعيد المنظمات غير الحكومية.
ومثلت هذه القضية إحدى أبرز القضايا التي بحثتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، كما حرصت الأمم المتحدة على تأطير وتنظيم هذه القضية مع جميع الأطراف الدولية المعنية بمعالجة هذه الظاهرة وما يترتب عليها من مشكلات وتعقيدات جسيمة.
أدار الندوة رئيس المنتدى العربي الأوروبي لحقوق الإنسان أيمن نصري، مستعرضاً ما يمثله الذكاء الاصطناعي من تحديات في عالمنا المعاصر، وما تقدمه في الوقت نفسه التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي من خدمة للإنسانية، وإسهامات جليلة في تحقيق التنمية التي يستهدفها العالم وتتطلع إليها الشعوب، لا سيما في ظل ما تشهده قضايا التقنيات الرقمية للمعلومات والذكاء الاصطناعي من عدم اهتمام، ربما نابع من حداثة تلك القضايا على المستوى الدولي، أو لعدم إدراك الأبعاد الحقيقية لما تمثله من مخاطر وتحديات.
وأكد “نصري” أهمية العمل المبكر ومضاعفة الجهود المبذولة في سبيل الوصول إلى معالجات حقيقية، تسهم في تحقيق واقع أفضل للمقاربة بين الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان.
وتحدث في الندوة أستاذ علوم التقنيات الرقمية الحديثة والذكاء الاصطناعي بجامعة جنيف، الدكتور أكرم حزام، الذي قدم تعريفاً لما يمثله الذكاء الاصطناعي مع تحليل بمقاربات إنسانية لهذه التكنولوجيات التي تفرض سيطرتها وسطوتها على العالم، لا سيما ما يتعلق بإنترنت الأشياء والعالم الافتراضي.
وأوضح “حزام” جملة المخاطر التي تمثلها ثورة المعلومات التقنية من تحديات، لا سيما على صعيد جمع واستخدام المعلومات الشخصية للأفراد، والتي تمثل خطورة على أمن وسلامة الأشخاص، وتتسبب في تعريض حقوقهم وحرياتهم للانتهاكات الجسيمة، مع ما يشهده العالم من سعي كبير للدول والشركات الكبرى للسيطرة على عالم الذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلومات الحديثة التي تحقق لهم السيطرة على الأفراد وقيادة التوجهات العامة للمجتمعات، وفي نفس الوقت القدرة على الإضرار بهم بأشكال غير قانونية وغير أخلاقية، معتمدة في تحقيق ذلك على التقدم التقني الذي تستحوذ عليه، وتعميق الممارسات التمييزية التي تعزز من الفجوة التقنية بين المجتمعات الغنية والفقيرة.
وتحدث الخبير الدولي في مجال العلوم السياسية والدراسات الإنسانية، الدكتور محمد الشريف فرجاني، عن الجوانب التي يتقاطع فيها الذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلومات مع الحقوق والحريات الإنسانية، لا سيما في ظل ما تمتلكه الحكومات والدول من إمكانيات واسعة وكبيرة تتعلق بجمع وتخزين واستخدام الحزم الكبيرة للمعلومات، والتي تمثل انتهاكاً كبيراً وخطيراً يتهدد خصوصية الإنسان وحريته، وقد يتوسع لجوانب أكثر خطورة تتعلق بأمنه وسلامته واستقراره.
وانتقد “فرجاني” ممارسات الدول الديمقراطية الكبرى المتعلقة باستحواذها واعتمادها على تقنيات الذكاء الاصطناعي في جمع المعلومات، واستخدامها لخدمة أغراضها وأهدافها التي تتعارض مع القيم والمبادئ الإنسانية، وما تعتمده من سياسات تقنية تقوم على التمييز، وتسخيرها لخدمة عدد من الأغراض غير القانونية والأخلاقية التي تحقق لها السيطرة العالمية، وتمكنها من قيادة التوجهات العامة للمجتمعات، والاستحواذ على مقدرات تقنية متقدمة قادرة على قيادة تعزيز الأثر الإعلامي وقيادة وتوجيه الرأي العام العالمي.
وتحدث “فرجاني” عن الإمكانيات التي توفرها التقنيات الحديثة لخدمة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، مستعرضاً الممارسات التي تنتهجها لنشر وتعزيز خطابها المتطرف، وتوسيع منصاتها الإعلامية للسيطرة والاستحواذ على الشباب عبر العديد من المنصات الإعلامية، لا سيما ما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي.
وتطرق الخبير الدولي إلى ما تمثله ممارسات الدول والشركات الكبرى من تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي لقمع وتخويف الضحايا وإسكاتهم، لا سيما ما يتعلق بعدد من الممارسات غير الأخلاقية التي تستهدف السيطرة على مقدرات الدول الفقيرة والضعيفة لتحقيق الأرباح، أو للسيطرة على مقدراتها وقراراتها وتعزيز تبعيتها.
ومن جانبه، استعرض رئيس منظمة جسور إنترناشيونال للإعلام والتنمية بجنيف، محمد الحمادي، ما تقدمه التكنولوجيات الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي من إسهامات كبيرة لخدمة الإنسانية وتحقيق الأهداف التنموية للدول والمجتمعات الإنسانية، والتي تسهم في تعزيز معاناة الشعوب الإنسانية سواء على صعيد سعي الدول لتعميق الفجوة التقنية بين المجتمعات، على النحو الذي يعزز من سيطرتها وريادتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وبما يحمله من إمكانية تسهم في تعزيز الانتهاكات التي يتعرض لها الأفراد، وتحرمهم التمتع من حقوقهم وحرياتهم الأساسية.
وأشار إلى أن هذه المعطيات، تسترعي العمل على بذل الجهود الكبيرة من كل الأطراف الفاعلة، لتعزيز منظومة حقوق الإنسان في ظل تحديات الذكاء الاصطناعي، وتأكيد اتباعها لنهج إنساني -سواء على صعيد البحوث أو الاستخدامات- يكفل لها حماية واحترام حقوق الإنسان.
وشدد “الحمادي”، على أهمية البدء في تنظيم وتأطير الحراك الدولي لمواجهة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في مجال حقوق الإنسان، مؤكداً أهمية الهاجس التجاري والاستثماري الذي تستهدفه الشركات الكبرى باستحواذها على التقنيات الحديثة، مدفوعة بالاستثمارات والعوائد التي تجنيها هذه الصناعة خلال السنوات القادمة، والتي استحث الشركات الكبرى وعدداً من الدول المتقدمة على السعي لجني الأرباح واكتساب الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال تعزيز التبعية التقنية لها، والتي تأتي في العديد من الصور على حساب القيم والمبادئ الإنسانية السامية.
وتطرق رئيس منظمة جسور إنترناشيونال للإعلام والتنمية إلى ما يثيره الذكاء الاصطناعي وتقنيات الرقمنة الحديثة للمعلومات، من مخاوف على صعيد حماية المعلومات الخاصة والخصوصية، وما تفرضه من سيطرة على الحريات الإعلامية والصحفية، وما توفره للدول من قدرة على تعزيز رقابتها وسيطرتها وهيمنتها على وسائل الإعلام كافة، وقدرتها الواسعة على قيادة وتوجيه الرأي العام بما يخدم توجهاتها وغاياتها التي تتعارض في الكثير منها مع حزمة الحقوق والحريات، التي تؤكد الشرعية الدولية حمايتها وكفالتها للجميع دون تمييز، لا سيما ما يتعلق منها بقدرة الشركات والدول الكبرى على جمع وتخزين المعلومات للأشخاص والمجتمعات حول العالم، وعلى النحو الذي يمكنها من التدخل والتأثير في الكثير من القرارات والتوجهات العامة للأفراد والدول، وهو ما يسترعي بذل المجتمع الدولي للمزيد من الاهتمام والعناية بمنظومة حقوق الإنسان في المستقبل، واستشراف كافة المخاطر والتهديدات التي تفرضها على صعيد الحقوق والحريات الإنسانية الأساسية.
وأشار “الحمادي” إلى أهمية العمل على تطوير المنظومة القانونية والتشريعية والقضائية بالدول، وبما يحقق لها الملاءمة مع التطورات الكبيرة على صعيد التقنيات الرقمية للمعلومات والذكاء الاصطناعي وتقنيات العالم الافتراضي والجيل الخامس، وهي تحديات كبيرة تتطلب العمل على وضع المعالجة التشريعية والسياسات الكفيلة بضبط وتأطير جميع التفاعلات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان، وتطوير التشريعات والقوانين الكفيلة بسد الفجوة القانونية والتشريعية التي تعاني منها غالبية الدول، في إطار ما تفرضه التقنيات الحديثة من تحديات وما تحدثه من تغيرات سريعة وكبيرة.
وطالب رئيس منظمة جسور إنترناشيونال للإعلام والتنمية بضرورة توحيد جهود الدول والمنظمات لتعزيز حمايتها للقيم والمبادئ الإنسانية، وضبط وتأطير قدرات الدول والشركات الكبرى على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وفق الضوابط القانونية والأخلاقية الكفيلة باحترام حقوق وحريات الأفراد والمجتمعات، مشدداً على أهمية العمل على إصدار “ميثاق عالمي لحقوق الإنسان الرقمية” لحماية وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، في ظل التحديات التي تفرضها التكنولوجيا بمختلف صورها وأشكالها على العالم.